الروايات الأسطورية (الحكايات التي تُروى)
هذه الروايات لها شعبية واسعة، لكنّها غير مثبتة بوثائق معاصرة لزمانها:
كالدي الراعي الإثيوبي
قصة الغنم التي رقصت بعد أكل حبّ البن، فجرّب الراعي الحبوب فأيقظته—أشهر أسطورة قهوة في العالم. أقدم ذكر معروف لها يظهر متأخرًا في القرن السابع عشر (بعد انتشار القهوة بقرون)، وليس في القرن التاسع.
الشيخ عُمر (أو أُويس/عُثمان) المنفي قرب المخا
يروى أنه جاع في كهفٍ قرب وِصاب/المخا، فجرّب تحميص الحبوب ثم غلاها فشرب “مرقًا عطِرًا” أعانه على البقاء؛ ذاع خبره واعتُبر “صاحب المعجزة”. الحكاية منقولة ضمن مخطوطات لاحقة نُسبت للجزيري، وتُعدّ رواية تراثية لا سندًا تاريخيًا قاطعًا.
الشاذلي : تُنسب القهوة أحيانًا إلى قطب التصوّف أبي الحسن الشاذلي، بل تربط تقاليد محليّة تأسيس مدينة المخا باسم “الشاذلي”. المختصر: نسبة رمزية-صوفية أكثر منها تقريرًا تاريخيًا.
الروايات التاريخية المبكّرة (ما له جذور في نصوص العلماء)
هنا نقترب من الأرض الصلبة:
جمال الدين الذبحاني (مفتي عدن)
تذكر مصادر متأخرة نقلاً عن الجزيري أن الشيخ جمال الدين الذبحاني (ت. 1470م) كان من أوائل من اعتمد شرب القهوة حوالي 1454م، وأنه جلب العادة من مخالطته تجّار/أهل الحبشة إلى اليمن. هذه رواية مبكّرة وذات معقولية في سياق تجارة عدن.
القِشر اليمني
قبل شيوع تحميص البنّ كاملًا، انتشر في اليمن مشروب القِشر (نقيع قشور البنّ). وجود القِشر يشرح لنا تدرّج الثقافة القهويّة من نقوع القشور إلى تحميص الحبّ نفسه.
الجزيري: “عمدة الصفوة في حلّ القهوة”
أهم نصّ مبكّر عن القهوة كتبه عبد القادر الجزيري في القرن السادس عشر، وجمع فيه تاريخ القهوة وخلافها الفقهي وانتشارها من اليمن للحجاز ثم مصر والشام وإسطنبول. تاريخ تأليف الكتاب يرد في المصادر بين 1558 و1587؛ في جميع الأحوال هو أوّل تجميع تاريخي مؤثّر وصلنا.
ما نعرفه يقينًا (خط التحوّل من “عادة صوفيّة” إلى ظاهرة عالمية)
- اليمن – منتصف القرن 15م: شرب الصوفيّة للقهوة للسهر والذكر—هذا هو أقدم دليل معتبر.
- 1511م – مكة: أوّل حملة تحريم كبرى بقيادة الوالي خير بك؛ نوقشت القهوة فقهيًا (هل تُلحق بالخمر لأن “قهوة” كانت من أسماء الخمر؟). المنع لم يصمد طويلًا وتبدّد لاحقًا.
- 1532م – القاهرة: منعاة جديدة ومداهمات للمقاهي ومخازن البن، ثم تراجع.
- 1554م تقريبًا – إسطنبول: افتتاح أوّل المقاهي العثمانية على يد تجّار من حلب ودمشق؛ ومن هنا تبدأ ثقافة القهوة بالمعنى الاجتماعي (مقاهي، نقاش، موسيقى، شطرنج…).
- المُخا – القرن 16–17م: صعود ميناء المُخا بوصفه بوابة البنّ للعالم، وتحوّله إلى اسم نوع (موكا).
أوروبا – القرن 17م:
- فينيسيا والبحر الأدرياتيكي عبر تجارة الشرق. (للأمانة: التواريخ الدقيقة لأول مقهى في فينيسيا مختلف عليها في المراجع، لكن دخول القهوة لإيطاليا مؤكد عبر الموانئ).
- لندن 1652: مقهى باسكوا روزي علامة مبكرة ومؤثّرة في بريطانيا.
- فيينا 1683؟ قصة “حُبوب تُركية تُركت بعد حصار فيينا” وشخصية كولشيتسكي—أسطورة محبوبة؛ الأرجح أن انطلاق المقاهي بفيينا كان 1685 بواسطة يوهانِس ديواداتو، والأسطورة ضخّمت الدور لاحقًا.
القهوة بين الفقه واللغة والسياسة
- اللغة والفقه: كلمة قَهْوَة في العربية كانت تُستعمل أيضًا اسمًا للخمر؛ هذا ما عقد المقارنة الفقهية قديمًا بين القهوة والخمر، وأشعل مناظرات مكّة (1511).
- لماذا خاف بعض الحكّام من القهوة؟ لأنها تخلق مجالًا عامًا: مقاهٍ يجتمع فيها الناس للنقاش والتفكير، وهذا كان جديدًا ومُقلقًا للسلطة في أوقات معيّنة—ومن هنا جاءت محاولات المنع المتكررة التي فشلت اجتماعيًا.
من “فنجان صوفيّ” إلى اقتصاد عالمي
- المُخا يحتكر ويصدّر: صارت اليمن لقرون منصة البنّ العالمية، وارتبط اسم “موكا/مُخا” بالتجارة والأسواق الأوروبية.
- كسر الاحتكار وزراعة البن عالميًا: في أواخر القرن السابع عشر، نقل الهولنديون الشتلات إلى جاوة ومنها انتشرت الزراعة إلى مستعمرات عدّة—وتبدّل ميزان التجارة. (رواية النقل معروفة في أدبيات القهوة الحديثة، وإن اختلفت التفاصيل الدقيقة بين المصادر).
إذن… من صاحب “أول فنجان” فعلًا؟
- إن كنت تقصد أول فنجان موثّق تاريخيًا: فالأقرب أنه فنجان صوفيّ يمني في أواسط القرن 15م.
- وإن كنت تقصد أول حكاية شائعة: فأسطورة كالدي هي الأشهر، لكن تدوينها متأخر.
- وإن كنت تقصد أول مقهى: الملامح الأولى لثقافة المقهى ظهرت في إسطنبول 1554، ثم قفزت إلى أوروبا (لندن 1652 وغيرها).
كيف غيّرت القهوة التاريخ؟
- ولادة “المقهى” كمؤسسة اجتماعية: مساحة للنقاش، الأخبار، التجارة، والأدب—ولذلك سمّاها مؤرخو بريطانيا “جامعات بنس” (Penny Universities). (المفهوم موثق جيدًا في دراسات تاريخ المقاهي).
- اقتصاد جديد: من احتكار المُخا إلى سلاسل توريد عالمية، كانت القهوة محرّك تجارة وموانئ على البحر الأحمر والمتوسط وأوروبا.
- تأثير ديني وثقافي: نقاشات فقهية مبكرة ثم قبول واسع؛ أسطورة “تعميد” البابا كليمنت الثامن للقهوة شائعة لكنها بلا دليل حاسم في سجلات عصره (تُروى كحكاية شعبية).
خط زمني مختصر
- منتصف القرن 15م: شرب القهوة في زوايا الصوفيّة باليمن.
- 1511: مناظرة ومنع مؤقت بمكة.
- 1532: منعاة في القاهرة، ثم انحسارها.
- 1554: أول مقاهٍ معلومة بإسطنبول.
- القرن 17م: صعود المُخا، انتقال القهوة إلى المرافئ الأوروبية، لندن 1652 محطة مفصلية.
- 1685: أقدم توثيق موثوق لمقهى فيينا (دِيوداتو)، لا أسطورة 1683.
المصادر
- Encyclopaedia Britannica (تاريخ القهوة، المُخا).
- عبد القادر الجزيري (عمدة الصفوة) – عرض مُجمّع مبكّر لتاريخ القهوة وخلافها.
- Jonathan Morris (25 Magazine) عن الذبحاني.
- Ralph Hattox، Coffee and Coffeehouses (دراسة أكاديمية عن البدايات والمنع بمكة 1511).
- Turkish coffee / تاريخ إسطنبول للمقاهي المبكرة.
- Pasqua Rosée ولندن 1652.
- Vienna myth—تصحيح أسطورة 1683تصحيح أسطورة .